مقدمه
مقدمة كتاب عبد الوهاب المسيري :
أكدت كل الكتابات حول المسيري التي صدرت بعد وفاته على أنه مفكر عمل بمفرده، حتى لقد بدا كما لو أنه مؤسسة كبرى اختُزلت في رجل واحد. من هذه الكتابات التي قُدِمت كنموذج ما يُوضح صورة المسيري لدى معاصريه، فهو: «واحة اسمها عبد الوهاب المسيري» [هذا ما كتبته منار الشوربجي في المصري اليوم]، نراه «في كل لحظة وفي كل مكان» [كما تحدثت شريكة مشواره الفكري والنضالي هدى حجازي]، فهو «إذا غاب حضر» [فهمي هويدي]، حيث كُتب له الخلود، فهناك «الموتى الأحياء والأحياء الموتى» [فوزي منصور]، و»إن المسيري باقٍ وسيظل دومًا» [كما أكد عبد الجليل مصطفى]، لأنه «حتى في ساحة النضال كان معلمًا» [جورج إسحاق في الدستور]، وهو «العلامة المناضل» [نادر الفرجاني]، و»العالم المناضل» [أحمد بهاء الدين شعبان]، و»المثقف الاستثنائي» [كما كتب محسن بشور]، و»المثقف العضوي النموذجي» [كما وصفه محمود عبد الفضيل]، ليس فقط لأنه «أضاء حياتنا نور المعرفة» [بهاء طاهر]، بل لكونه «مثقفًا وضمير أمة» [إيمان يحيى]، «فهذا الرجل من هذه الأمة» [حمدين صباحي]، إنه «فقيد الأمة» [أبو العلا ماضي]، «المصري الكريم العنصرين» [كما كتب سليمان تقي الدين]، و»المفكر الحقيقي الذي يموت بين الناس وعلى أشواقهم» [عمار علي حسن]، وكتب بشير موسى أن المساحة التي احتلها المسيري في خارطة العرب الفكرية المعاصرة هي بالتأكيد أكبر بكثير مما يظنه محبوه أو منتقدوه، مثل هذا المفكر والعالم الجليل وسام على صدر كل مجتمع تشرف بانتماء المسيري إليه أو مؤسسة مجتمعية تشرفت بانتسابه إليها، وقد خدم مصر والعرب والإسلام بتفانٍ واقتدار طوال أكثر من نصف قرن بمختلف أشكال العمل التربوي والفكري والوطني.
ونحن هنا نحاول أن نعرض لهذه الكتابات، وهي جزء يسير للغاية مما كُتب عن المسيري. ونستطيع أن نعدد ليس مئات بل الآلاف من المقالات التي تناولت جهوده، إلا أن الكتيب الذي أصدرته «كفاية» له مذاق آخر مختلف، ليس لأنه عملٌ يضم كتابات كل القوى الفكرية والسياسية المتنوعة في مصر، ولا كل الأجيال المختلفة التي عرفت المسيري، بل لأنه كُتب ممن عاش معهم ولهم وبهم المسيري.
وقد هدفت أن أعرض لكتاباتهم في هذه المقدمة لبيان أن كل مقطوعاتهم الموسيقية تنويعات على لحن واحد حي، وهل تموت الألحان؟! إنها مثل ما قدمه المسيري، تمثل إيقاع حياتنا. ومن هنا، قصدت أن أقدمها بعد عشر سنوات من وفاته للقارئ؛ لتوضح هي بذاتها الوحدة في الاختلاف والاختلاف في الوحدة، فكلها وهي تتحدث عن المسيري تتحدث عن مصر، مصر التي في خواطرنا وفي دمائنا، يقول جورج إسحاق: «كان الدكتور المسيري نموذجًا فذًا للفلّاح المصري الفصيح، الذي استطاع بعبقرية أن يستفيد من العلوم الغربية الحديثة ويستوعبها دون أن يقع في أسرها، بل بذل جهدًا فكريًا أصيلًا في نقدها وتجاوزها وتطويرها بما مكنه من تكوين رؤية خلاقة وفعالة؛ لمجتمعه ومسار تطوره الفكري والثقافي» (ص 11). ويضيف: «لقد سعى الدكتور عبد الوهاب المسيري لأن يقدم درسًا آخر لتلاميذه، ليس فقط في تقنيات وأساليب البحث العلمي، ولكن أيضًا في أهمية توظيف هذه التقنيات للدفاع عن قضايا العدل والحرية ولمواجهة الفساد والاستبداد».
ولقد أدرك حمدين صباحي أن هذا الرجل من هذه الأمة، حيث يقول: «كان الدكتور عبد الوهاب المسيري ابنًا بارًا لأمته، وتلميذًا نجيبًا في مدرسة حضارتها وتاريخها وواقعها، ومعلمًا عظيمًا لأجيال جديدة، يليق بها أن تتعلم منه دروسًا ملهمةً، أهمها الارتباط العضوي بين الفكر والعمل، بين التنظير والتطبيق، بين الكتاب والشارع.. وأن المثقف الحقيقي لا يدافع عن حقوق أمته بالكلمة وحدها، بل بالهتاف في المظاهرة أيضًا، ولا يواجه الوعي الزائف الذي تروّجه السلطة، بل يواجه أيضًا دروع وعصي الأمن المركزي، وأن النضال الثقافي لا يكتمل إلا بالنضال السياسي» (ص 44).
إن عبد الوهاب المسيري ـ الذي اخترق بإرادة معرفة جبارة شتى ميادين الفكر الإنساني ـ أدرك بعبقرية فذة ضرورة المنهج، وأكد عليها ومارسها؛ بحيث أضحت كتاباته المختلفة في مختلف الظواهر التي تناولها قريبة المنال لوعي المثقف المعاصر. وهذا ما لاحظه الكثير من الباحثين والكتاب..
يقول محمد السيد سعيد: «ما يلفت النظر في إنجازه الفكري هو اهتمامه الشديد بالمنهجية. والحقيقة أن مساهماته في فهم مشكلة المنهج والنماذج المعرفية هي التي ستعيش أطول من غيرها.. كما سيعيش طويلًا بالطبع نقده الحازم للصهيونية كنزعة عنصرية بدائية همجية من الناحيتين الأخلاقية والسياسية» (ص 44).
فهو مفكر موسوعي بحجم جمال حمدان صاحب موسوعة شخصية مصر، كما يقارنهما عبد الحليم قنديل، وربما كان المسيري في هذه المقارنة أقل من حمدان اهتمامًا بأناقة الحرف وجرس اللغة، لكن لغة المسيري بدت في خانة السهل الممتنع، وبدا التقارب مع جمال حمدان ظاهرًا في نحت المصطلحات، وربما أتيح للمسيري من السفر في الجغرافيا وثراء الثقافة وطلاقة الحركة أكثر مما كان لجمال حمدان، وبدا الأثر ظاهرًا في وعي المسيري العميق المتفرد ببنية الحضارة الغربية، وفي مقدرته الأسطورية على اكتشاف وتفكيك أساساتها، وفي بلورة وصياغة مناهج تركيبية للتفسير، وفي إعادة قراءة التاريخ الغربي باتجاهاته ومدارسه في ضوء جديد باهر، وقد تكون موسوعته عن الصهيونية هي الأشهر، لكن موسوعاته اللاحقة تنازعها في القيمة، وموسوعته عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ـ في جزأين ـ عمل فكري ريادي ينافس في القيمة موسوعته الأشهر، فلم يكن المسيري مجرد متخصص في دراسات الصهيونية، بل كان فيلسوفًا شاملًا بحق (ص 16-17).
توقف الكثيرون أمام إنجاز المسيري الموسوعي، وكيف أعاد تصويب عيوننا نحو العدو الحقيقي، لنقرأ ما كتب محمد عبد القدوس في «الدستور»: «قبل الدكتور عبد الوهاب المسيري كانت مواجهة العدو الصهيوني تتم على طريقة «أمجاد يا عرب أمجاد»!! والمثال الشهير لها إذاعة صوت العرب، وجاء الدكتور المسيري ليواجه بني إسرائيل بأساليب علمية لأول مرة، وكرس حياته لدراستهم بطريقة مستفيضة لم يسبقه إليها أحد قط، فهو وحده يساوي أمةً أو جيشًا بأكمله» (ص 23).
وكتب أبو العلا ماضي يقول: «إن الفكرة العدوانية الإمبريالية الغربية الاستعمارية هي التي تحارب هذه المنطقة وتريدها تحت سيطرتها وتريدها حقيقةً مفككةً متخلفةً، وإن «إسرائيل» هي الأداة لتحقيق المخطط الاستعماري الغربي بأقل تكلفة، وكان يشبّه إسرائيل والجماعات اليهودية الصهيونية التي تعمل في الغرب بالموظف المنافق، الذي يعرف ماذا يريد رئيسه ويتوافق مع أهدافه ويحققها له، أي إن الغرب الاستعماري يستعمل «إسرائيل» كرأس حربة لتنفيذ مخططاته العدوانية الاستعمارية وليس العكس» (ص 38-39).
وليس ثمة شك في أن التطور البارز في رؤيته للإسلام خلال العقود الأخيرة من حياته كان نتاجًا لتطور رؤيته للمسار الراديكالي الذي أخذته الحداثة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر. بمعنى أن المسيري وجد في النهاية أن مسلم القرن العشرين بإمكانه أن يعيش الحياة الحديثة بدون أن يتخلى عن إيمانه، وأن الحفاظ على منجزات الحداثة لا يتطلب الاستسلام لقوى التشييء الإنساني أو للتصور الحلولي المادي للعالم (بشير موسى نافع: صحيفة العرب قطر، ص67).
ويرى ياسر علوي أن المتأمل في أعمال المسيري يلاحظ أن الانتصار للتاريخ هو الهم الحاكم في جميع هذه الأعمال، فتحليله للظاهرة الصهيونية على سبيل المثال يقوم على نقد ـ ونقض ـ استثنائها لنفسها من التاريخ الإنساني، وإصرارها على أن الجماعات اليهودية تمثل شعبًا عضويًا يعيش خارج التاريخ.
ومن هنا فإن الخطوة الأولى لفهم وتحليل الظاهرة الصهيونية هي وضعها في سياقها التاريخي السليم، باعتبارها ظاهرةً استعماريةً غربيةً لا يمكن فهمها إلا في سياق تاريخ الاستعمار الاستيطاني منذ نهاية القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين، وليس بالعودة إلى النصوص التوراتية والتلمود الذي لم يعد يقرأه حتى طلبة المعاهد الدينية في إسرائيل (ص 73-73).
وقد كتب سليمان تقي الدين في «السفير» اللبنانية: «لقد رأى المسيري أن الفكر الصهيوني ليس يهوديًا بل هو استعماري يستخدم الدين كأداة للتبرير تمامًا كما حدث في الحروب الصليبية. فالصهيونية هي أحد إفرازات الفكر الاستعماري الغربي، الذي قام على الفلسفات المادية التي كانت ذروتها «نظرية فوكوياما» عن نهاية التاريخ. لقد سبق للمسيري أن أصدر كتابًا عام 1972 اعتبر فيه أن نظرية نهاية التاريخ ليست إلا فكرةً فاشيةً. لكن أهم ما بلوره المفكر العربي أن هذه الفلسفة السياسية الراهنة لتاريخ المنطقة، من الاندفاعة الإمبريالية الأمريكية ليست معاديةً للعرب وحسب، بل هي معادية للإنسانية، لأنها بالفعل تدعو الإنسان لوقف مسيرة التجاوز نحو ما هو أفضل» (ص 100).
وهو ما أكده في نفس الصحيفة صقر أبو فخر: «لعل عبد الوهاب المسيري هو، بلا ريب، أحد أهم المفكرين العرب الذين كان لهم شأن كبير جدًا في تفكيك الركام المروع الذي أطبق على أدمغة الدارسين العرب حينما تتصل دراساتهم بفهم المسألة اليهودية والصهيونية. فهو، منذ بداياته التأليفية، لاحظ غياب نموذج تفسيري مركب لفهم اليهود واليهودية، ولاحظ أيضًا أن الشائع هو الاختزال والعمومية في فهم أخطر ظاهرة واجهها العرب منذ حروب الفرنجة وسقوط بغداد. فانبرى بجهد ثاقب إلى إنشاء معمار نظري جديد يتيح دراسة هذه الظاهرة دراسةً علميةً نقديةً تتخطى ما درج الكتاب العرب عليه في النظر إلى المسألة اليهودية» (ص 102).
يكفي عبد الوهاب المسيري أنه قدم للعرب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية في ثمانية أجزاء، إنها إنجازه الأهم، مع أنني أعتقد أن كتابيه عن بروتوكولات حكماء صهيون وعن الجمعيات السرية في العالم لا يقلان أهميةً عن موسوعته، ففي هذين الكتابين أسّس منهجًا دقيقًا وصارمًا ونقديًا وعلميًا في آن………